أبو العَلاء المعّريّ (363 ـ 449هـ) (973 ـ 1057م)
أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمّد بن سليمان المعريّ، التنوخي، تنتهي سلسلة أجداده إلى النعمان بن عديّ، كنيته أبو العلاء، ولقب نفسه رهين المحبسين، الأول فقد بصره، والثاني ملازمته داره واعتزاله الناس. ولد بمعرّة النعمان، وهي مدينة شامية، تنسب إلى النعمان بن عدي. تولى أجداد أبي العلاء قضاء المعرّة، وضم إليها جدّه أبو الحسن سليمان قضاء حمص- أيضاً- وتوفى فتولى بعده ابنه أبو بكر بن محمّد بن سليمان عمّ أبي العلاء. فلما مات ولى القضاء بعده أخوه عبد الله بن سليمان والد أبي العلاء. جدته لأبيه أم سلمة بنت أبي سعيد الحسن بن إسحاق المعريّ، كانت تروي الأحاديث، وعدّت من شيوخ أبي العلاء.
وأمه من بيت معروف من بيوتات حلب وجدّه لأمه محمّد بن سبيكة، وخالاه أبو القاسم علي وأبو طاهر المشرف، وكانوا من ذوي الشرف والمروءة والكرم، ومن أرباب الأسفار طلباً للمجد والجاه.
أصيب المعريّ في آخر العام الثالث من عمره بالجدريّ، فعُمي في الرابعة من عمره، ولم يبق من ذكريات ما رآه إلا اللون الأحمر.
بدأ أبو العلاء صغيراً في تلقي العلم على أبيه، وأول ما بدأ به علوم اللسان والدين على دأب الناس في ذلك العصر. وبدأ يقرض الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة. ثم ارتحل إلى حلب ليسمع اللغة والآداب من علمائها. ومن حلب توجه إلى إنطاكية، ثم سافر إلى طرابلس الشام، ومرّ في طريقه باللاذقيّة، ويقال أنه درس النصرانية واليهودية. ثم عاد إلى المعرّة، ورحل إلى بغداد، وأقام بها سنة وسبعة أشهر يطلب العلم، ويتردد في مكتباتها؛ ويحضر كثيراً من مجالس العلماء ويشترك في دروسهم ومناظراتهم. ثم رجع إلى المعرّة، وتوفيت أمه وهو في طريقه من بغداد راجعاً فرثاها بقصيدتين وكثير من النثر. وقرر المعريّ الانقطاع عن الدنيا ومفارقة لذائذها، فكان يصوم النهار، ويسرد الصيام سرداً لا يفطر إلا العيدين، ويقيم الليل، ولم يأكل اللحم خمساً وأربعين سنة. ولا يتزوج، واكتفى من الثياب بما يستره، ومن الفراش بحصير من برديّ أو لباد. وكان يكلف نفسه أموراً شاقة زيادة في مجاهدتها، مثل الاغتسال شتاءاً بالماء البارد.
وقد التزم بقرار عزلته فلم يخرج من داره تسعاً وأربعين سنة إلا مرة واحدة، كما أنه لم يفتح داره لأحد من الناس مدة من الزمن، ثم فتح داره لطلاب العلم بعد إلحاح الناس، فصارت داره جامعة يؤمها الزائرون من شتى البقاع، وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار.
كان المعريّ رغم عزلته ذا صلة حسنة بالناس، وكان مع فقره كريماً ذا مروءة يعين طلاب الحاجات وينفق على من يقصده من الطلاب، ويكرم زائريه. وكان رقيق القلب رحيماً عطوفاً على الضعفاء، وكان وفياً لأصدقائه وأهله. ومن أهم خصاله الحياء الذي كان يكلفه ضروباً من المشقة والأذى. وكان سيئ الظن بالناس، يعتقد فيهم الشرور والأسوأ، ويمقت فيهم خصال الكذب والنفاق والرياء.
تأثر المعريّ بمختلف الفلسفات التي سادت عصره، وأضاف إليها تجربته الشخصية وآراؤه التي استقاها واختارها لنفسه، وأكثر آرائه الفلسفية حول ديوانه (اللزوميات) سميت بذلك لأنه التزم فيها حرفاّ قبل حرف الرويّ. وقد تكلف في هذا التأليف ثلاث كلف: الأولى أن ينظم حروف المعجم عن آخرها. والثانية أن يجئ رويه بالحركات الثلاث وبالسكون، والثالثة أنه لزم مع كل روي فيه شئ لا يلزم. وقد جاء الديوان من أحد عشر ألف بيت، في مائة وثلاثة عشر فصلاً. وقد جاء الديوان مثقلاً بالغريب واستعمال المصطلحات.
أما ديوانه (سقط الزند) فيضم أكثر شعر صباه وشيئاً من شعر الكهولة. ويحوي الديوان أغراضاً مختلفة من أهمها المدح، والفخر، والوصف، والغزل، والرثاء. فمن شعره في الغزل:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السَّمُرِ لعلَّ بالجزع أعواناً على السهر
وإن بخلت عن الأحياء كلهم فاسق المواطر حيناً من بني مطرِ
ويا أسيرة حجيلها أرى سفهاً حمل الجليّ لمن أعيا عن النظرا
ما سرت إلا وطيف منك يتبعني سرى أمامي وتأويباً على أثري.
ومن أجود ما قال في الرثاء الدالية التي أبّن بها أبا حمزة الفقيه الحنفي، ومنها:
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باكِ ولا ترنّم شاد
وشبيه صوت النّعي إذا قيس بصوت البشير في كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غنّت على فرع غصنها الميّاد
إنّ حزناً في ساعة الموت أضعاف سرور ساعة الميلاد
أما الدرعيات: فهي قصائد وصف بها المعري الدرع، طبعت ملحقة بسقط الزند، ومن أشهر هذه الدرعيات:
عليك السابغات فإنهنهّ يدافعن الصوارم والأسنّة
ومن شهد الوغى وعليه درعُ تلقاها بنفس مطمئنة
أبدى المعري ارتيابه في كثير مما يوجد في الأديان والفرق. فعاب على النصارى قولهم بصلب المسيح، وعلى اليهود كثرة الأكاذيب في التوراة، وعاب على المجوس عبادة ما لا يعقل.
ومدح النبيّ- صلى الله عليه وآله وسلم- بقصيدة في اللزوميات:
دعاكم إلى خير الأمور محمّد وليس العوالي في القنا كالسوافل
ألف أبو العلاء مؤلفات نثرية من اشهرها: "رسالة الغفران"، و"رسالة الملائكة"، و"الفصول والغايات".
توفي المعري عام 449هـ/1057م.